تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

الجنان : افتح له ففتح فدخلها فرأى ما فيها». (أَمِينٍ) أي : بليغ الأمانة على الوحي الذي يجيء به. وقيل : الرسول هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالمعنى حينئذ : ذي قوة على تبليغ الوحي (مُطاعٍ) أي : يطيعه من أطاع الله تعالى.

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

(وَما صاحِبُكُمْ) أي : الذي طالت صحبته لكم ، وأنتم تعلمون أنه في غاية الكمال حتى أنه ليس له وصف عندكم إلا الأمين ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا عطف على أنه إلى آخر المقسم عليه.

وأغرق في النفي فقال تعالى : (بِمَجْنُونٍ) أي : كما زعمتم يتهم في قوله : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) [الصافات : ٣٧] فما القرآن الذي يتلوه عليكم قول مجنون ، ولا قول متوسط في العقل بل قول أعقل العقلاء وأكمل الكمل.

تنبيه : استدلّ بذلك بعضهم على فضل جبريل عليه‌السلام على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث عدّ فضائل جبريل عليه‌السلام واقتصر على نفي الجنون عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو كما قال البيضاوي : ضعيف ؛ إذ المقصود منه نفي قولهم إنما يعلمه بشر ، وقولهم افترى على الله كذبا ، وقولهم أم به جنة لا تعديد فضله والموازنة بينهما.

(وَلَقَدْ رَآهُ) أي : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه‌السلام على صورته التي خلق عليها ، وله ستمائة جناح. (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي : البين ، وهو الأفق الأعلى الذي عند سدرة المنتهى حيث لا يكون لبس أصلا ، ولا يكون للشيطان على ذلك المكان سبيل فعرفه حق المعرفة. وقال مجاهد وقتادة : بالأفق الأعلى من ناحية المشرق.

وعن ابن عباس «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لجبريل عليه‌السلام : «إني أحب أن أراك على صورتك التي تكون فيها في السماء» قال : لن تقوى على ذلك ، قال : «بلى». قال : فأين تشاء أن أتخيل لك ، قال : «بالأبطح». قال : لا يسعني ، قال : «فبمنى». قال : لا تسعني. قال : «فبعرفات». قال ذلك بالحري أن يسعني ، فواعده فخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم للوقت ، فإذا هو بجبريل قد أقبل من جبل عرفات بخشخشة وكلكلة قد ملأ ما بين المشرق والمغرب ، ورأسه في السماء ورجلاه في الأرض ، فلما رآه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرّ مغشيا عليه ، قال : فتحوّل جبريل عن صورته فضمه إلى صدره ، وقال : يا محمد لا تخف فكيف لو رأيت إسرافيل ، ورأسه تحت العرش ورجلاه في التخوم السابعة ، وإنّ العرش لعلى كاهله ، وإنه ليتضاءل أحيانا من مخافة الله تعالى حتى يصير مثل الوصع ـ يعني : العصفور ـ حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته. وقيل : إنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه عزوجل بالأفق المبين ، وهو قول ابن مسعود وقد مرّ ذلك في سورة النجم.

(وَما) أي : وسمعه ورآه والحال أنه ما (هُوَ) أي : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عَلَى الْغَيْبِ) أي : ما غاب من الوحي وخبر السماء ، ورؤية جبريل وغير ذلك مما أخبر به. وقرأ (بِضَنِينٍ) ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء المشالة من الظنة ، وهي التهمة ، أي : فليس بمتهم ، والباقون بالضاد موافقة للمرسوم من الضن وهو البخل ، أي : فليس ببخيل بالوحي فيزوي بعضه ، أو يسأل تعليمه فلا يعلمه

٥٦١

كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلوانا وهو في مصحف عبد الله بالظاء ، وفي مصحف أبيّ بالضاد ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ بهما.

قال الزمخشري : وإتقان الفصل بين الضاد والظاء واجب ، ومعرفة مخرجيهما مما لا بدّ منه للقارئ ، فإنّ أكثر العجم لا يفرقون بين الحرفين وإن فرقوا ففرقا غير صواب ، وبينهما بون بعيد ، فإنّ مخرج الضاد من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره ، وكان عمر بن الخطاب أضبط يعمل بكلتا يديه ، وكان يخرج الضاد من جانبي لسانه ، وهي أحد الأحرف الشجرية أخت الجيم والشين. وأمّا الظاء فمخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا ، وهي أحد الأحرف الذولقية أخت الذال والثاء ، ولو استوى الحرفان لما ثبتت في هذه الكلمة قراءتان اثنتان ، واختلاف بين جبلين من جبال العلم والقراءة ، ولما اختلف المعنى والاشتقاق والتركيب.

فإن قلت : فإن وضع المصلي أحد الحرفين مكان صاحبه ، قلت : هو كوضع الذال مكان الجيم والثاء مكان السين لأنّ التفاوت بين الضاد والظاء كالتفاوت بين أخواتهما ا ه. كلامه بحروفه.

(وَما هُوَ) أي : القرآن الذي من جملة معجزاته الإخبار بالمغيبات. وأغرق في النفي بالتأكيد بالباء فقال تعالى : (بِقَوْلِ شَيْطانٍ) أي : مسترق للسمع فيوحيه إليه كما يوحيه إلى بعض الكهنة (رَجِيمٍ) أي : مرجوم مطرود بعيد من الرحمة ، وذلك أنّ قريشا كانوا يقولون : إنّ هذا القرآن يجيء به شيطان فيلقيه على لسانه ، يريدون بالشيطان الأبيض الذي كان يأتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة جبريل يريد أن يفتنه ، فنفى الله تعالى ذلك.

وقوله تعالى : (فَأَيْنَ) منصوب بقوله تعالى : (تَذْهَبُونَ) لأنه ظرف مبهم ، وقال أبو البقاء : أي إلى أين فحذف الجار ، أي : فأيّ طريق تسلكون في إنكاركم القرآن وإعراضكم عنه ، وفي هذا استضلال لهم فيما يسلكون من أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن كقولك لتارك الجادّة أين تذهب.

(إِنْ) أي : ما (هُوَ) أي : القرآن الذي آتاكم به الرسول (إِلَّا ذِكْرٌ) أي : عظة وشرف (لِلْعالَمِينَ) من إنس وجنّ وملك.

وقوله تعالى : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ) بدل من العالمين بإعادة الجار (أَنْ يَسْتَقِيمَ) باتباع الحق. قال أبو جهل : الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم ، وهذا هو القدر وهو رأس القدرية فنزل (وَما تَشاؤُنَ) الاستقامة على الحق (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي : إلا وقت أن يشاء الملك الأعظم الذي بيده كل شيء مشيئتكم الاستقامة عليه (رَبُّ الْعالَمِينَ) أي : مالك الخلق. وفي هذا إعلام أنّ أحدا لا يعمل خيرا إلا بتوفيق الله تعالى ، ولا شرا إلا بخذلانه. ونقل البغوي في أوّل السورة بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أحب أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» (١).

وأمّا قول البيضاوي تبعا للزمخشري إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة التكوير أعاذه الله أن يفضحه حين تنشر صحيفته» (٢). فحديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٣٧ ، والحاكم في المستدرك ٢ / ٥١٥.

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧١٤.

٥٦٢

سورة الانفطار

مكية ، وهي تسع عشرة آية وثمانون كلمة وثلاثمائة وسبعة وعشرون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي خلق كل شيء فقدّره تقديرا (الرَّحْمنِ) الذي دبر الكائنات تدبيرا (الرَّحِيمِ) الذي أرسل رسوله للخلق نذيرا.

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))

(إِذَا السَّماءُ) أي : على شدّة إحكامها واتساقها وارتفاعها (انْفَطَرَتْ) أي : انشقت لنزول الملائكة كقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) [الفرقان : ٢٥].

(وَإِذَا الْكَواكِبُ) أي : النجوم الصغار والكبار كلها الغراء الزاهرة المتوقدة توقد النار المرصعة ترصيع المسامير (انْتَثَرَتْ) أي : تساقطت متفرّقة ؛ لأنّ عند انتقاض تركيب السماء تنتثر النجوم على الأرض.

(وَإِذَا الْبِحارُ) المتفرّقة في الأرض وهي ضابطة لها أتم ضبط لنفع العباد على كثرتها (فُجِّرَتْ) أي : فتح بعضها في بعض فاختلط العذب بالملح وزال البرزخ الذي بينها فصارت البحار بحرا واحدا وروي أنّ الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار فتصير مستوية. وهو معنى التسجير عند الحسن في قوله تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) [التكوير : ٦] وقال هنا : فجرت بغت.

(وَإِذَا الْقُبُورُ) أي : مع ذلك كله (بُعْثِرَتْ) أي : قلبت ، يقال : بعثره وبحثره بالعين والحاء. قال الزمخشري : وهما مركبان من البعث والبحث مع راء مضمومة إليهما ، أي : فهما بمعنى ، والمعنى : قلب أعلاها أسفلها وقلب باطنها ظاهرها ، وخرج ما فيها من الموتى أحياء ، وقيل : التبعثر إخراج ما في بطنها من الذهب والفضة ، ثم تخرج الموتى بعد ذلك ، وجواب إذا أوّل السورة وما عطف عليه.

(عَلِمَتْ نَفْسٌ) أي : كل نفس وقت هذه المذكورات ، وهو يوم القيامة (ما قَدَّمَتْ) من عمل

٥٦٣

(وَأَخَّرَتْ) أي : جميع ما عملت من خير أو شر أو غيرهما. فإن قيل : أي وقت من القيامة يحصل هذا العلم. قال الرازي : أمّا العلم الإجمالي فيحصل في أوّل زمان الحشر ؛ لأنّ المطيع يرى آثار السعادة ، والعاصي يرى آثار الشقاوة في أوّل الأمر ، وأمّا العلم التفصيلي ، فإنما يحصل عند قراءة الكتب والمحاسبة.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) أي : البشر الآنس بنفسه الناسي لما يعنيه ، خطاب لمنكري البعث. وروى عطاء عن ابن عباس : أنها نزلت في الوليد بن المغيرة. وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في أبي الشريق ضرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يعاقبه الله تعالى في أوّل أمره. وقيل : تتناول جميع العصاة لأنّ الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ) أي : ما خدعك وسوّل لك الباطل حتى تركت ما أوجب عليك المحسن إليك وأتيت بالمحرّمات (الْكَرِيمِ) أي : الذي له الكمال كله المقتضي لأن لا يهمل الظالم ولا يسوي بين المحسن والمسيء ، هذا إذا حملنا الإنسان على جميع العصاة ، فإن حملناه على الكافر وهو ظاهر الآية فالمعنى : ما الذي دعاك إلى الكفر وإنكار الحشر والنشر.

فإن قيل : كونه كريما يقتضي أن يغترّ الإنسان بكرمه لأنه جواد مطلق ، والجواد الكريم يستوي عنده طاعة المطيع وعصيان المذنب ، وهذا يوجب الاغترار كما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه صيح بغلام له مرّات فلم يلبه ، فنظر فإذا هو بالباب فقال له : لم لا تجيبني؟ فقال : لثقتي بحلمك وأمني عقوبتك ، فاستحسن جوابه وأعتقه.

وقالوا أيضا : من كرم ساء أدب غلمانه. وإذا ثبت أنّ كرمه يقتضي الاغترار به فكيف جعله ههنا مانعا من الاغترار؟ أجيب : بأنّ حق الإنسان أن لا يغتر بكرم الله تعالى عليه حيث خلقه حيا ، وتفضل عليه فهو من كرمه لا يعاجل بالعقوبة بسطا في مدّة التوبة ، وتأخيرا للجزاء إلى أن يجمع الناس للجزاء فالحاصل أنّ تأخير العقوبة لأجل الكرم ، وذلك لا يقتضي الاغترار بهذا التفضيل فإنه منكر خارج عن حدّ الحكمة ، ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما تلاها : «غرّه جهله» (١). وقال عمر : غرّه حمقه وجهله. وقال الحسن : غرّه والله شيطانه الخبيث ، أي : زين له المعاصي. وقال له : افعل ما شئت فربك الكريم الذي تفضل عليك بما تفضل به أوّلا ، وهو متفضل عليك آخرا حتى ورّطه.

وقيل للفضيل بن عياض : إن أقامك الله يوم القيامة وقال لك : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) ماذا تقول له؟ قال : أقول غرّني ستورك المرخاة ، وهذا على سبيل الاعتراف بالخطأ في الاغترار بالستر وليس باعتذار كما يظنه الطماع ، ويظنّ به قصاص الحشوية ويروون عن أئمتهم أنما قال (بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) دون سائر صفاته ليلقن عبده الجواب حتى يقول : غرّني كرم الكريم. وقال مقاتل : غرّه عفو الله حيث لم يعاقبه أوّل مرّة. وقال السدي : غرّه رفق الله تعالى به. وقال قتادة : سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان. وقال ابن مسعود : ما منكم من أحد إلا سيخلو الله تعالى به يوم القيامة فيقول : ما غرّك بي يا ابن آدم؟ ماذا عملت فيما علمت؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟

(الَّذِي خَلَقَكَ) أي : أوجدك من العدم مهيأ بتقدير الأعضاء (فَسَوَّاكَ) عقب تلك الأطوار

__________________

(١) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٨٢.

٥٦٤

بتصوير الأعضاء والمنافع بالفعل (فَعَدَلَكَ) أي : جعل كل شيء من ذلك سليما مودعا فيه قوّة المنافع التي خلقه الله تعالى لها.

تنبيه : قوله تعالى : (الَّذِي) يحتمل الإتباع على البدل والبيان والنعت والقطع إلى الرفع والنصب. واعلم أنه سبحانه وتعالى لما وصف نفسه بالكرم ذكر هذه الأمور الثلاثة كالدلالة على تحقيق ذلك الكرم فقوله سبحانه (الَّذِي خَلَقَكَ) أي : بعد أن لم تكن لا شك أنه كرم لأنه وجود ، والوجود خير من العدم ، والحياة خير من الموت. كما قال تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨].

وقوله تعالى : (فَسَوَّاكَ) أي : جعلك مستوي الخلقة سالم الأعضاء غاية في الكرم كما قال تعالى : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) [الكهف : ٣٧] أي : معتدل الخلق والأعضاء. وقال ذو النون المصري : أي : سخر لك المكوّنات أجمع ، وما جعلك مسخرا لشيء منها ، ثم أنطق لسانك بالذكر وقلبك بالعقل وروحك بالمعرفة ومدّك بالإيمان وشرفك بالأمر والنهي ، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلا. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الدال والباقون بالتشديد ، بمعنى جعلك متناسب الأطراف فلم يجعل إحدى يديك أو رجليك أطول ، ولا إحدى عينيك أوسع فهو من التعديل. وهو كقوله تعالى : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) [القيامة : ٤]. وقال عطاء عن ابن عباس : جعلك قائما معتدلا حسن الصورة لا كالبهيمة المنحنية. وقال أبو علي الفارسي : عدلك خلقك في أحسن تقويم مستويا على جميع الحيوان والنبات ، وواصلا في الكمال إلى ما لم يصل إليه شيء من أجسام هذا العالم. وأمّا قراءة التخفيف فتحتمل هذا أي : عدل بعض أعضائك ببعض ويحتمل أن يكون من العدول ، أي : صرفك إلى ما شاء من الهيئات والأشكال. ونقل القفال عن بعضهم : أنهما لغتان بمعنى واحد.

(فِي أَيِّ صُورَةٍ) أي : من الصور التي تعرفها والتي لا تعرفها من الدواب والطيور وغير ذلك من الحيوان وغيره ، وما في قوله تعالى : (ما شاءَ) مزيدة ، وفي أيّ متعلق بركب في قوله تعالى (رَكَّبَكَ) أي : ركبك في أي صورة اقتضتها مشيئته وحكمته من الصور المختلفة في الحسن والقبح والطول والقصر والذكورة والأنوثة ، والشبه ببعض الأقارب وخلاف الشبه. فإن قيل : هلا عطفت هذه الجملة كما عطف ما قبلها؟ أجيب : بأنها بيان لعدلك ويجوز أن تتعلق بمحذوف ، أي : ركبك حاصلا في بعض الصور ، ومحله النصب على الحال إن علق بمحذوف ، ويجوز أن يتعلق بعدلك ويكون في أي معنى التعجب ، أي : فعدلك في صورة عجيبة : ثم قال : (ما شاءَ رَكَّبَكَ) من التراكيب يعني : تركيبا حسنا.

وقوله تعالى : (كَلَّا) ردع عن الاغترار بكرم الله تعالى والتعلق به ، وهو موجب الشكر والطاعة إلى عكسهما الذي هو الكفر والمعصية. وقوله تعالى : (بَلْ تُكَذِّبُونَ) أي : يا كفار مكة (بِالدِّينِ) إضراب إلى ما هو السبب الأصلي في اغترارهم والمراد بالدين الجزاء على الأعمال والإسلام.

(وَإِنَ) أي : والحال أنّ (عَلَيْكُمْ) أي : ممن أقمناهم من جندنا من الملائكة (لَحافِظِينَ) أي : على أعمالكم بحيث لا يخفى عليهم منها جليل ولا حقير.

(كِراماً) أي : على الله تعالى (كاتِبِينَ) أي : لهذه الأعمال في الصحف كما تكتب الشهود

٥٦٥

منكم العهود ليقع الجزاء على غاية التحرير.

تنبيه : هذا الخطاب وإن كان خطاب مشافهة إلا أنّ الأمّة أجمعت على عموم هذا الخطاب في حق المكلفين ، وقوله تعالى : (لَحافِظِينَ) جمع يحتمل أن يكونوا حافظين لجميع بني آدم من غير أن يختص واحد من الملائكة بواحد من بني آدم ، ويحتمل أن يكون الموكل بكل واحد منهم غير الموكل بالآخر ، ويحتمل أن يكون الموكل بكل واحد منهم جمعا من الملائكة ، كما قيل : اثنان بالليل واثنان بالنهار ، أو كما قيل : إنهم خمسة.

واختلفوا في الكفار هل عليهم حفظة. فقيل : لا لأنّ أمرهم ظاهر وعملهم واحد ، قال تعالى : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) [الرحمن : ٤١] وقيل : عليهم حفظة وهو ظاهر قوله تعالى : (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) [الانفطار : ١٠ ـ ١١] وقوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) [الحاقة : ٢٥] وقوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) [الانشقاق : ١٠] فأخبر أنّ لهم كتابا وأنّ عليهم حفظة.

فإن قيل فأي شيء يكتب الذي عن يمينه ولا حسنة له؟ أجيب : بأنّ الذي عن شماله يكتب بإذن صاحبه ويكون صاحبه شاهدا على ذلك وإن لم يكتب. وفي هذه الآية دلالة على أنّ الشاهد لا يشهد إلا بعد العلم لوصف الملائكة بكونهم حافظين كراما كاتبين.

(يَعْلَمُونَ) أي : على التجدد والاستمرار (ما تَفْعَلُونَ) فدل على أنهم يكونون عالمين بها حتى أنهم يكتبونها ، فإذا كتبوها يكونون عالمين عند أداء الشهادة ، وفي تعظيم الكتبة تعظيم لأمر الجزاء ، فإنه عند الله من جلائل الأمور ، ولو لا ذلك لما وكل بضبط ما يحاسب عليه وفيه إنذار وتهويل للعصاة ، ولطف بالمؤمنين. وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال : ما أشدها من آية على الغافلين.

ولما وصف تعالى الكرام الكاتبين لأعمال العباد ذكر أحوال العاملين ، وقسمهم قسمين ، وبدأ بقسم أهل السعادة. فقال تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ) أي : المؤمنين الصادقين في إيمانهم بأداء فرائض الله تعالى واجتناب معاصيه (لَفِي نَعِيمٍ) أي : محيط بهم أبد الآبدين ، وهو نعيم الجنة الذي لا نهاية له.

ثم ذكر قسم أهل الشقاوة بقوله تعالى : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ) الذي من شأنهم الخروج عما ينبغي الاستقرار فيه من رضا الله تعالى إلى سخطه ، وهم الكفار (لَفِي جَحِيمٍ) أي : نار محرقة تتوقد غاية التوقد فهم فيها أبد الآبدين.

(يَصْلَوْنَها) أي : يدخلونها ويقاسون حرّها (يَوْمَ الدِّينِ) أي : يوم الجزاء وهو يوم القيامة.

(وَما هُمْ عَنْها) أي : الجحيم (بِغائِبِينَ) أي : مخرجين ، ويجوز أن يراد يصلون النار يوم الدين وما يغيبون عنها قبل ذلك في قبورهم. وقيل : أخبر الله تعالى في هذه السورة أنّ لابن آدم ثلاث حالات حالة الحياة التي يحفظ فيها عمله ، وحالة الآخرة التي يجازى فيها ، وحالة البرزخ وهو قوله تعالى : (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ.)

وروي أن سليمان بن عبد الملك قال لأبي حازم المدني : ليت شعري ما لنا عند الله ، قال : اعرض عملك على كتاب الله تعالى ، فإنك تعلم ما لك عند الله تعالى ، قال : فأين أجد ذلك في كتاب الله؟ قال : عند قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) الآية. قال سليمان : فأين رحمة الله

٥٦٦

تعالى؟ قال : قريب من المحسنين.

ثم عظم سبحانه وتعالى ذلك اليوم فقال : (وَما أَدْراكَ) أي : وما أعلمك وإن اجتهدت في تطلب الدراية به (ما يَوْمُ الدِّينِ) أي : أيّ شيء هو في طوله وهوله وفظاعته وزلزاله.

ثم كرره تعجبا لشأنه فقال تعالى : (ثُمَّ ما أَدْراكَ) أي : كذلك (ما يَوْمُ الدِّينِ) أي : إنّ يوم الدين الذي بحيث لا تدرك دراية دار كنهه في الهول والشدّة ، وكيفما تصوّرته فهو فوق ذلك وعلى أضعافه. والتكرير لزيادة التهويل.

ثم أجمل تعالى القول في وصفه فقال سبحانه : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ) أي : بوجه من الوجوه في وقت ما (نَفْسٌ) أي : أيّ نفس كانت (لِنَفْسٍ شَيْئاً) أي : قل أوجل ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع يوم على أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو يوم. وجوّز الزمخشري أن يكون بدلا مما قبله ، يعني : يوم الدين ، والباقون بالفتح بإضمار أعني أو اذكر.

(وَالْأَمْرُ) أي : كله (يَوْمَئِذٍ) أي : إذ كان البعث للجزاء (لِلَّهِ) أي : ملك الملوك لا أمر لغيره فيه فلا يملّك الله تعالى في ذلك اليوم أحدا شيئا كما ملكهم في الدنيا.

وقول البيضاوي تبعا للزمخشري إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة انفطرت كتب الله له بعدد كل قطرة من السماء حسنة وبعدد كل قبر حسنة» (١). حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٨١٧.

٥٦٧

سورة المطففين

مدنية ، في قول الحسن وعكرمة ومقاتل.

قال مقاتل : وهي أوّل سورة نزلت بالمدينة ، وقال ابن عباس وقتادة : مدنية إلا ثمان آيات وهي قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) إلى آخرها فهو مكيّ. وقال الكلبي وجابر بن زيد نزلت بين مكة والمدينة ، ولعل هذا هو سبب الاختلاف وقال ابن مسعود والضحاك : مكية.

وهي ست وثلاثون آية وتسع وتسعون كلمة وسبعمائة وثمانون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي من توكل عليه كفاه (الرَّحْمنِ) الذي عمّ جوده الأبرار والعصاة (الرَّحِيمِ) الذي خص أهل طاعته بهداه.

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧))

(وَيْلٌ) مبتدأ ، وسوغ الابتداء به كونه دعاء ، وهو إمّا كلمة عذاب أو هلاك ثابت عظيم في كل حال من أحوال الدنيا والآخرة ، أو واد في جهنم. وقوله تعالى : (لِلْمُطَفِّفِينَ) خبره ، والتطفيف البخس في الكيل والوزن ؛ لأنّ ما يبخس شيء طفيف حقير. قال الزجاج : وإنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان : مطفف لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف.

وروى ابن عباس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم المدينة ، وكانوا من أبخس الناس كيلا فنزلت فأحسنوا الكيل ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأها عليهم وقال : «خمس بخمس» قيل : يا رسول الله ما خمس؟ قال : «ما نقض قوم العهد إلا سلط الله تعالى عليهم عدوّهم ، ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ، ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر» (١). وقال : السدي : قدم رسول

__________________

(١) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ١١ / ٤٥ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٥ / ٦٣ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ١ / ٥٤٤ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ٣٢٤ ، والقرطبي في تفسيره ١٩ / ٢٥٣.

٥٦٨

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وبها رجل يعرف بأبي جهينة ، ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فنزلت.

وقيل : كان أهل المدينة تجارا يطففون ، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة فنزلت. وعن عليّ أنه مرّ برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال له : أقم الوزن بالقسط ، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت كأنه أمر بالتسوية أوّلا ليعتادها ويفصل الواجب من النفل. وعن ابن عباس : إنكم معشر الأعاجم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم المكيال والميزان ، وخص الأعاجم لأنهم يجمعون الكيل والوزن جميعا وكانا مفرّقين في الحرمين ، كان أهل مكة يزنون وأهل المدينة يكيلون. وعن ابن عمر أنه كان يمرّ بالبائع فيقول : اتق الله وأوف الكيل ، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى أنّ العرق يلجمهم إلى أنصاف آذانهم. وعن عكرمة أشهد أنّ كل كيال ووزان في النار فقيل له : إن ابنك كيال أو وزان فقال : أشهد أنه في النار. وعن أبيّ : لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس المكاييل وألسن الموازين.

ثم بين تعالى المطففين من هم بقوله تعالى : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا) أي : عالجوا الكيل (عَلَى النَّاسِ) أي : كائنين من كانوا لا يخافون شيئا ، ولا يراعون أحدا بل صارت الخيانة والوقاحة لهم ديدنا (يَسْتَوْفُونَ) أي : إذا كالوا منهم وأبدل على مكان من للدلالة على أن اكتيالهم من الناس اكتيال يضرهم ويتحامل فيه عليهم ، ويجوز أن يتعلق على ب (يَسْتَوْفُونَ) ويقدّم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية ، أي : يستوفون على الناس خاصة ، وأمّا أنفسهم فيستوفون لها. وقال الفراء : من وعلى يتعاقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه ، فإذا قال : اكتلت عليك فكأنه قال : أخذت ما عليك ، وإذا قال : اكتلت منك فكقوله : استوفيت منك.

(وَإِذا كالُوهُمْ) أي : كالوا للناس أي : حقهم ، أي : مالهم من الحق (أَوْ وَزَنُوهُمْ) أي : وزنوا لهم فحذف الجار وأوصل الفعل ، كما قال القائل (١) :

ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا

ولقد نهيتك عن بنات الأوبر

وقال آخر : والحريص يصيدك لا الجواد. بمعنى جنيت لك ويصيد لك ويقال : وزنتك حقك ، وكلتك طعامك ، أي : وزنت لك وكلت لك ، ونصحتك ونصحت لك ، وكسبتك وكسبت لك والأكمؤ جمع كمأة ، والعساقل ضرب منها ، وأصله : عساقيل لأنّ واحدها عسقول كعصفور فحذفت الياء للضرورة ، وبنات أوبر ضرب من الكمأة رديء.

(يُخْسِرُونَ) جواب إذا ، وهو يتعدى بالهمزة. يقال : خسر الرجل وأخسرته أنا مفعوله محذوف ، أي : يخسرون الناس متاعهم. وقيل : يخسرون أي : ينقصون بلغة فارس أي : ينقصون الكيل أو الوزن.

وقوله تعالى : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ) أي : الأخساء البعداء الأراذل (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ) أي : لأجله أو فيه ، وزاد التهويل بقوله تعالى : (عَظِيمٍ) إنكارا وتعجيبا من حالهم في الاجتراء على التطفيف ، كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخمينا أنهم مبعوثون ومحاسبون على مقدار الذرة

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في الاشتقاق ص ٤٠٢ ، والإنصاف ١ / ٣١٩ ، وأوضح المسالك ١ / ١٨٠ ، وجمهرة اللغة ص ٣٣١ ، والخصائص ٣ / ٥٨ ، ولسان العرب (جوت) ، (حجر) ، (سور) ، (عير) ، (وبر) ، (جحش) ، (أبل) ، (حفل) ، (عقل) ، (اسم) ، (جنى) ، (نجا).

٥٦٩

والخردلة. وقيل : الظنّ بمعنى اليقين.

وقوله تعالى : (يَوْمَ) يجوز نصبه بمبعوثون ، أو بإضمار أعني ، أو بدل من محل يوم فناصبه يبعثون (يَقُومُ النَّاسُ) أي : من قبورهم (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي : الخلائق لأجل أمره وجزائه وحسابه. وعن ابن عمر أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يوم يقول الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» (١). وعن المقداد قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد. حتى تكون قيد ميل أو اثنين ـ قال سليم : لا أدري أي الميلين يعني : مسافة الأرض أو الميل الذي تكتحل به العين ـ قال : فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق بقدر أعمالهم فمنهم من يأخذه إلى عقبيه ، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من يأخذه على حقويه ، ومنهم من يلجمه إلجاما ، فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يشير بيده إلى فيه يقول : ألجمه إلجاما» (٢). وعن قتادة : أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك ، واعدل كما تحب أن يعدل لك. وعن الفضيل : بخس الميزان سواد الوجوه يوم القيامة. وعن عبد الملك بن مروان أنّ أعرابيا قال له : سمعت ما قال الله في المطففين أراد بذلك أنّ المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن ، وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظنّ ووصف اليوم بالعظم وقيام الناس فيه لله تعالى خاضعين ، ووصفه ذاته برب العالمين بيان بليغ لعظم الذنب ، وتفاقم الإثم في التطفيف وفيما كان في مثل حاله من الحيف ، وترك القيام بالقسط والعمل على السوية ، والعدل في كل أخذ وإعطاء بل في كل قول وعمل.

وعن ابن عمر أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) بكى نحيبا وامتنع من قراءة ما بعده. وعن بعض المفسرين أنّ لفظ التطفيف يتناول التطفيف في الوزن والكيل وفي إظهار العيب وإخفائه وفي طلب الإنصاف والانتصاف ، ويقال : من لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه فليس بمنصف ، والمعاشرة والصحبة في هذه المادّة ، والذي يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة ، ومن طلب حق نفسه من الناس ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلبه.

وقوله تعالى : (كَلَّا) ردع ، أي : ليس الأمر على ما هم عليه فليرتدعوا ، وههنا تم الكلام. وقال الحسن : كلا ابتداء متصل بما بعده على معنى حقا ، وجرى الجلال المحلي وأكثر المفسرين على الأوّل.

(إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) أي : كتب أعمال الكفار وأظهر موضع الإضمار تعميما وتعليقا للحكم بالوصف. واختلف في معنى قوله سبحانه وتعالى : (لَفِي سِجِّينٍ) فقيل : هو كتاب جامع ، وهو ديوان الشر دوّن الله تعالى فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجنّ والإنس ، وقيل : هو مكان تحت الأرض السابعة وهو محل إبليس وجنوده. وقال عبد الله بن عمر : سجين في الأرض السابعة السفلى فيها أرواح الكفار.

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٩٣٨ ، ومسلم في الجنة حديث ٢٨٦٢ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣٣٦ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٢٧٨.

(٢) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٢٨٦٤ ، والترمذي في القيامة حديث ٢٤٢١.

٥٧٠

وعن البراء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سجين أسفل سبع أرضين وعليون في السماء السابعة تحت العرش» (١). وقال الكلبي : هو صخرة تحت الأرض السابعة خضراء خضرة السموات منها يجعل كتاب الفجار فيها. وقال وهب : هي آخر سلطان إبليس. وعن كعب الأحبار : أنّ روح الفاجر يعني : الكافر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها ، ثم هبط بها إلى الأرض فتأبى الأرض أن تقبلها فتدخل تحت سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجين ، وهو موضع جند إبليس وذلك استهانة بها ، ويشهدها الشياطين المدحورون كما يشهد ديوان الخير الملائكة المقرّبون. وقال عكرمة : لفي سجين ، أي : في خسار وضلال.

(وَما أَدْراكَ) أي : جعلك داريا وإن اجتهدت في ذلك. (ما سِجِّينٌ) وقال الزجاج : أي : ليس لك ذلك ما كنت تعلمه أنت ولا قومك.

وقوله تعالى : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) ليس تفسيرا لسجين بل هو بيان للكتاب المذكور في قوله تعالى : (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) أي : هو كتاب مرقوم ، أي : مسطور بين الكتابة مكتوب فيه أعمالهم مثبت عليهم كالرقم في الثوب لا ينسى ولا يمحى حتى يجازون به ، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه. وقيل : الرقم الختم بلغة حمير ، واقتصر على هذا الجلال المحلي. وقال قتادة : رقم عليه بشرّ كأنه علم بعلامة يعرف بها أنه كافر. والمعنى : أنّ ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان ، وسمي سجينا فعيلا من السجن وهو الحبس والتضييق في جهنم ، أو لأنه مطروح تحت الأرض كما مرّ.

فإن قيل : سجين هل هو اسم أو صفة؟ أجيب : بأنه اسم علم منقول من وصف كحاتم ، وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف.

(وَيْلٌ) أي : أعظم الهلاك (يَوْمَئِذٍ) أي : إذ تقوم الناس لما تقدّم (لِلْمُكَذِّبِينَ) أي : بذلك أو بالحق. وقوله تعالى : (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ) أي : بسبب الإخبار بيوم (الدِّينِ) أي : الجزاء الذي هو سر الوجود بدل أو بيان للمكذبين.

ثم أخبر عن صفة من يكذب بيوم الدين بثلاث صفات ذكر أولها بقوله تعالى : (وَما) أي : والحال أنه ما (يُكَذِّبُ بِهِ) أي : بذلك اليوم (إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ) أي : متجاوز عن النظر غال في التقليد ، حتى استقصر قدرة الله تعالى وعلمه ، فاستحال منه الإعادة. ثم ذكر الصفة الثانية بقوله تعالى : (أَثِيمٍ) أي : منهمك في الشهوات المحرجة بحيث اشتغل عما وراءها وحملته على الإنكار لما عداها. ثم ذكر الصفة الثالثة بقوله تعالى : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) أي : القرآن (قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي : الحكايات سطرت قديما جمع أسطور بالضم ، وذلك لفرط جهله وإعراضه عن الحق فلا تنفعه شواهد النقل كما لا تنفعه دلائل العقل ، وهذا عام في كل موصوف بذلك ، وقال الكلبي : هو الوليد بن المغيرة. وقيل : هو النضر بن الحارث.

وقوله تعالى : (كَلَّا) ردع وزجر ، أي : ليس هو أساطير الأوّلين ، وقال الحسن : معناها حقا كما مرّ. (بَلْ رانَ) أي : غلب وأحاط وغطى تغطية الغيم السماء (عَلى قُلُوبِهِمْ) أي : كل من قال هذا القول (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي : كما يركب الصدأ من إصرارهم على الكبائر وتسويف التوبة

__________________

(١) أخرجه البغوي في تفسيره ٧ / ٢١٩ ، والقرطبي في تفسيره ١٩ / ٢٥٨.

٥٧١

حتى طبع على قلوبهم فلا تقبل الخير ولا تميل إليه. روى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن المؤمن إذا أذنب ذنبا نكتت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها وإذا زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلكم الران الذي ذكره الله تعالى في كتابه المبين» (١). وقال أبو معاذ : الران أن يسودّ القلب من الذنوب ، والطبع أن يطبع على القلب وهو أشدّ من الران ، والأقفال أشدّ من الطبع ، وهو أن يقفل على القلب ، قال تعالى : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤] وقال الحسن : هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب ويغشى فيموت القلب.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم والمحقرات من الذنوب فإنّ الذنب على الذنب يوقد على صاحبه جحيما ضخمة» (٢). وعن الحسن : الذنب بعد الذنب يسود القلب. يقال : ران عليه الذنب وغان عليه رينا وغينا والغين الغيم ، ويقال : ران فيه النوم : رسخ فيه ، ورانت به الخمرة ذهبت به. وقرأ حمزة وشعبة والكسائي بالإمالة : محضة ، والباقون بالفتح وسكت حفص على اللام وقفة لطيفة من غير قطع والباقون بغير سكت.

وقوله تعالى : (كَلَّا) ردع عن الكسب الرائن على قلوبهم ، وقيل : بمعنى حقا كما مرّ (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ) أي : المحسن إليهم (يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) أي : فلا يرونه بخلاف المؤمنين فإنهم يرونه كما ثبت لك في الأحاديث الصحيحة. وقال الحسن : لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا. وسئل مالك عن هذه الآية فقال : لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه.

وفي قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) دلالة على أنّ أولياء الله يرون الله تعالى ، ومن نفى الرؤية كالزمخشري جعله تمثيلا للاستخفاف بهم وإهانتهم ؛ لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء والمكرمين لديهم ، ولا يحجب عنهم إلا الأذناب المهانون عندهم. وعن ابن عباس وقتادة : محجوبون عن رحمته. وعن ابن كيسان : عن كرامته.

(ثُمَّ إِنَّهُمْ) أي : بعد ما شاء الله تعالى من إمهالهم (لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي : لداخلوا النار المحرقة.

(ثُمَّ يُقالُ) أي : تقول لهم الخزنة (هذَا) أي : العذاب (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي : في دار الدنيا.

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣٣٤ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٢٤٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٩٧.

(٢) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ١٨٩.

٥٧٢

الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

وقوله تعالى : (كَلَّا) ردع عن التكذيب ، وقيل : معناها حقا كما مرّ. وقال البيضاوي : تكرير للأوّل ليعقب بوعد الأبرار كما عقب بوعيد الفجار إشعار بأنّ التطفيف فجور والإيفاء برّ ، وردع عن التكذيب (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ) أي : كتب أعمال المؤمنين الصادقين في إيمانهم (لَفِي عِلِّيِّينَ) وعليون علم لديوان الخير الذي دوّن فيه كل ما عملته صلحاء الثقلين ، منقول من جمع فعيل من العلو كسجين من السجن ، سمي بذلك إمّا لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة ، وإمّا لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون تكريما له وتعظيما. وروي «أنّ الملائكة لتصعد بعمل العبد فيستقبلونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من سلطانه أوحى إليهم إنكم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه ، وإنه أخلص عمله فاجعلوه في عليين ، وقد غفرت له وإنها لتصعد بعمل العبد فيزكونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم أنتم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على قلبه ، وإنه لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين» (١). وعن البراء مرفوعا : «عليين في السماء السابعة تحت العرش» (٢). وقال ابن عباس : هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش ، أعمالهم مكتوبة فيها. وقال كعب وقتادة : هو قائمة العرش اليمنى. وقال عطاء عن ابن عباس : هو الجنة. وقال الضحاك : سدرة المنتهى. وقال بعض أهل المعاني علو بعد علو وشرف بعد شرف ، ولذلك جمعت بالياء والنون. قال الفراء : هو اسم موضع على صيغة الجمع لا واحد له من لفظه مثل عشرين وثلاثين.

(وَما أَدْراكَ) أي : جعلك داريا وإن بالغت في الفحص (ما عِلِّيُّونَ) أي : ما كتاب عليين هو (كِتابٌ) أي : عظيم (مَرْقُومٌ) أي : فيه أنّ فلانا أمن من النار ، رقما يا له من رقم ما أبهاه وأجمله.

(يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) يحضرونه فيشهدون على ما فيه يوم القيامة ، أو يحفظونه.

ولما عظم كتابهم عظم منزلتهم بقوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) أي : في الجنة ثم بين ذلك النعيم بأمور ثلاثة : أوّلها : قوله تعالى : (عَلَى الْأَرائِكِ) أي : الأسرة في الحجال ، ولا يسمى أريكة إلا إذا كان كذلك ، والحجال بكسر الحاء جمع حجلة ، وهي بيت يزين بالثياب والستور والأسرة ، قاله الجوهري. (يَنْظُرُونَ) أي : إلى ما شاؤوا مدّ أعينهم إليه من مناظر الجنة ، وإلى ما أولاهم الله تعالى من النعمة والكرامة ، وإلى أعدائهم يعذبون في النار ، وما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدراك. وقال الرازي : ينظرون إلى ربهم بدليل قوله تعالى : (تَعْرِفُ) أي : أيها الناظر إليهم (فِي وُجُوهِهِمْ) عند رؤيتهم (نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أي : بهجته وحسنه ورونقه كما ترى في وجوه الأغنياء وأهل الترفه ، أو الخطاب إمّا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل ناظر ، وقال الحسن : النضرة في الوجه والسرور في القلب وهذا هو الأمر الثاني.

وأمّا الثالث فهو قوله تعالى : (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) أي : خمر صافية طيبة وقال مقاتل : الخمر البيضاء. وقال الرازي : لعله الخمر الموصوف بقوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ) [الصافات : ٤٧]

__________________

(١) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٨٣.

(٢) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٩ / ٢٦٢.

٥٧٣

(مَخْتُومٍ) أي : ختم ومنع من أن تمسه يد إلى أن يفك ختمه الأبرار. وقال القفال : يحتمل أن يكون ختم عليه تكريما له بالصيانة على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان ، وهناك خمر أخرى تجري أنهارا لقوله تعالى : (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) [محمد : ١٥] إلا أنّ هذا المختوم أشرف من الجاري.

(خِتامُهُ مِسْكٌ) أي : آخر شربه يفوح منه مسك ، فالمختوم الذي له ختام ، أي : آخر شربه ، وختم كل شيء الفراغ منه. وقال قتادة : يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك. وقال ابن زيد : ختامه عند الله مسك. وقيل : طينه مسك. وقيل : تختم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك مكان الطينة.

(وَفِي ذلِكَ) أي : الأمر العظيم البعيد التناول ، وهو العيش والنعيم أو الشراب الذي هذا وصفه (فَلْيَتَنافَسِ) أي : فليرغب غاية الرغبة بجميع الجهد والاختيار (الْمُتَنافِسُونَ) أي : الذين من شأنهم المنافسة ، وهو أن يطلب كل منهم أن يكون ذلك المتنافس فيه لنفسه خاصة دون غيره ؛ لأنه نفيس جدا ، والنفيس هو الذي تحرص عليه نفوس الناس وتتغالى فيه ، والمنافسة في مثل هذا بكثرة الأعمال الصالحة والنيات الخالصة.

وقال مجاهد : فليعمل العاملون نظيره قوله تعالى : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) [الصافات : ٦١] وقال مقاتل بن سليمان : فليسارع المتسارعون. وقال عطاء : فليستبق المستبقون. وقال الزمخشري : فليرتقب المرتقبون. والمعنى : واحد. وأصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس ويريده كل أحد لنفسه ، وينفس فيه على غيره أي : يضنّ.

(وَمِزاجُهُ) أي : ما يمزج به ذلك الرحيق (مِنْ تَسْنِيمٍ) وهو علم لعين بعينها سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه ؛ لأنها تأتيهم من فوق على ما روي أنها تجري في الهواء مسنمة فتصب في أواني أهل الجنة على مقدار الحاجة ، فإذا امتلأت أمسكت.

وقوله تعالى : (عَيْناً) نصب على المدح ، وقال الزجاج : نصب على الحال. (يَشْرَبُ بِهَا) أي : بسببها على طريقة المزج منها (الْمُقَرَّبُونَ) وضمن يشرب معنى يلتذ ، فهم يشربونها صرفا ، وتمزج سائر أهل الجنة.

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أي : قطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، وهم رؤوساء قريش. (كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) وهم فقراء الصحابة عمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من فقراء المؤمنين (يَضْحَكُونَ) أي : استهزاء بهم.

(وَإِذا مَرُّوا) أي : المؤمنون (بِهِمْ) أي : بالذين أجرموا (يَتَغامَزُونَ) أي : يشير المجرمون إلى المؤمنين بالجفن والحاجب استهزاء بهم. وقيل : يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم. قيل : جاء عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا : رأينا اليوم الأصلع وضحكوا منه ، فنزلت قبل أن يصل عليّ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَإِذَا انْقَلَبُوا) أي : رجع الذين أجرموا برغبتهم في الرجوع وإقبالهم عليه من غير تكرّه (إِلى أَهْلِهِمُ) أي : منازلهم التي هي عامرة بجماعتهم. وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بضم الهاء والميم ، وأبو عمرو بكسر الهاء ، والباقون بكسر الهاء وضم الميم (انْقَلَبُوا) حالة كونهم (فَكِهِينَ) أي : متلذذين بما كان من مكنتهم ورفعتهم التي أوصلتهم إلى الاستسخار بغيرهم ، قال

٥٧٤

ابن برجان : روي عنه عليه الصلاة والسلام : «إن الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ» (١) «يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر» (٢) وفي أخرى : «يكون المؤمن فيهم أذل من الأمة» (٣) وفي أخرى : «العالم فيهم أنتن من جيفة حمار فالله المستعان» (٤). وقرأ حفص بغير ألف بين الفاء والكاف والباقون بالألف ، قيل هما بمعنى ، وقيل : فكهين فرحين وفاكهين ناعمين. وقيل : فاكهين أصحاب فاكهة ومزاح.

(وَإِذا رَأَوْهُمْ) أي : رأى المجرمون المؤمنين (قالُوا) أي : المجرمون (إِنَّ هؤُلاءِ) أي : المؤمنين (لَضالُّونَ) أي : لإيمانهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرون أنهم على شيء ، وهم على ضلال في تركهم التنعيم الحاضر بسبب شيء لا يدرى هل له وجود أم لا؟

قال الله تعالى : (وَما) أي : والحال أنهم ما (أُرْسِلُوا) أي : الكفار (عَلَيْهِمْ) أي : على المؤمنين (حافِظِينَ) أي : موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم ويهيمنون على أعمالهم ، ويشهدون برشدهم وضلالهم ، وهذا تهكّم بهم. وقيل : هو من جملة قول الكفار ، وأنهم إذا رأوا المسلمين قالوا : إنّ هؤلاء لضالون ، وإنهم لم يرسلوا عليهم حافظين ، إنكار لصدّهم إياهم عن الشرك ودعائهم إلى الإسلام ، وجدّهم في ذلك.

وقوله تعالى : (فَالْيَوْمَ) منصوب بيضحكون ، ولا يضر تقديمه على المبتدأ ؛ لأنه لو تقدّم العامل هنا لجاز ؛ إذ لا لبس بخلاف : زيد قام في الدار لا يجوز في الدار زيد قام ، ومعنى فاليوم أي : في الآخرة (الَّذِينَ آمَنُوا) ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان (مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) وفي سبب هذا الضحك وجوه منها :

أنّ الكفار كانوا يضحكون على المؤمنين في الدينا بسبب ما هم فيه من الضر والبؤس ، وفي الآخرة يضحك المؤمنون على الكافرين بسبب ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والكبر ، ومن ألوان العذاب بعد النعيم والترفه.

ومنها أنهم علموا أنهم كانوا في الدنيا على غير شيء ، وأنهم باعوا الباقي بالفاني.

ومنها أنهم يرون أنفسهم قد فازوا بالنعيم المقيم ونالوا بالتعب اليسير راحة الأبد.

ومنها : قال أبو صالح : يقال لأهل النار وهم فيها : اخرجوا وتفتح لهم أبوابها فإذا رأوها وقد فتحت أبوابها أقبلوا إليها يريدون الخروج والمؤمنون ينظرون إليهم ، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلّقت دونهم ، يفعل ذلك بهم مرارا فذلك سبب الضحك.

ومنها : أنهم إذا دخلوا الجنة وأجلسوا على الأرائك ينظرون إلى الكفار كما قال تعالى : (عَلَى الْأَرائِكِ) أي : الأسرة العالية (يَنْظُرُونَ) إليهم كيف يعذبون في النار ويرفعون أصواتهم بالويل والثبور ويلعن بعضهم بعضا.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٤٥ ، والترمذي في الإيمان حديث ٢٦٢٩ ، وابن ماجه في الفتن حديث ٣٩٨٦ ، وأحمد في المسند ١ / ١٨٤ ، ٣٩٨ ، ٢ / ١٧٧ ، ٢٢٢ ، ٣٨٩ ، ٤ / ٧٣.

(٢) أخرجه الترمذي في الفتن حديث ٢٢٦٠ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٩٠ ، ٣٩١.

(٣) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٤) الحديث لم أجده.

٥٧٥

تنبيه : ينظرون حال من يضحكون ، أي : يضحكون ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان. وقال كعب : بين الجنة والنار كوى ، إذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوّ له كان في الدنيا اطلع عليه من تلك الكوى كما قال تعالى : (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٥٥] فإذا اطلعوا من الجنة على أعدائهم وهم يعذبون في النار ضحكوا.

قال الله تعالى : (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ) أي : هل جوزوا (ما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي : جزاء استهزائهم بالمؤمنين ، ومعنى الاستفهام ههنا : التقرير ، وثوّبه وأثابه بمعنى واحد إذا جازاه. قال أوس (١):

سأجزيك أو يجزيك عني مثوّب

وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي

وقرأ الكسائي وهشام بإدغام اللام في الثاء والباقون بالإظهار. وقول البيضاوي تبعا للزمخشري إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة المطففين سقاه الله تعالى من الرحيق المختوم يوم القيامة» (٢). حديث موضوع.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أوس بن حجر ص ٢٦.

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧٢٥.

٥٧٦

سورة الانشقاق

مكية ، وهي ثلاث أو خمس وعشرون آية ومائة وسبع كلمات وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي شقق الأرض بالنبات (الرَّحْمنِ) الذي عمّ جوده أهل الأرض والسموات (الرَّحِيمِ) الذي خص أهل طاعته بالجنات.

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤)وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥))

وقوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ) أي : على ما لها من الإحكام والعظمة (انْشَقَّتْ) كقوله تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [التكوير : ١] في إضمار الفعل وعدمه ، وفي إذا هذه احتمالان : أحدهما : أن تكون شرطية ، والثاني : أن تكون غير شرطية. فعلى الأوّل في جوابها أوجه : أحدها : أنه محذوف ليذهب المقدر كل مذهب ، أو اكتفاء بما علم في مثلها من سورتي التكوير والانفطار ، وهو قوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ) [الانفطار : ٥ ، وسورة التكوير : ١٤] والثاني : جوابها ما دل عليه (فَمُلاقِيهِ) الثالث : أنه (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) على حذف الفاء ، وعلى كونها غير شرطية فهي مبتدأ ، وخبرها إذا الثانية والواو مزيدة ، تقديره : وقت انشقاق السماء وقت مدّ الأرض ، أي : يقع الأمران في وقت. قاله الأخفش. وقيل : إنه منصوب مفعولا به بإضمار اذكر انشقاقها بالغمام ، وهو من علامات القيامة كقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) [الفرقان : ٢٥] وعن عليّ تنشق من المجرّة. قال ابن الأثير : المجرّة هي البياض المعترض في السماء والسراب من جانبها.

(وَأَذِنَتْ) أي : سمعت وأطاعت في الانشقاق (لِرَبِّها) أي : لتأثير قدرته حين أراد انشقاقها انقياد المطواع الذي ورد عليه الأمر من جهة المطاع ، فأنصت له وأذعن ولم يأب ولم يمتنع ، كقوله : (أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١٠](وَحُقَّتْ) أي : حق لها أن تسمع وتطيع بأن تنقاد ولا تمتنع. يقال : حق بكذا فهو محقوق وحقيق.

(وَإِذَا الْأَرْضُ) أي : على ما لها من الصلابة (مُدَّتْ) أي : زيد في سعتها كمدّ الأديم ولم يبق عليها بناء ولا جبل ، كما قال تعالى : (قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٦ ـ

٥٧٧

١٠٧] وعن ابن عباس مدّت مدّ الأديم العكاظيّ لأنّ الأديم إذا مدّ زال كل انثناء فيه وأمت واستوى.

(وَأَلْقَتْ) أي : أخرجت (ما فِيها) من الكنوز والموتى كقوله تعالى : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) [الزلزلة : ٢١]. (وَتَخَلَّتْ) أي : خلت منها حتى لم يبق في بطنها شيء ، وذلك يؤذن بعظم الأمر كما تلقي الحامل ما في بطنها عند الشدّة ، ووصفت الأرض بذلك توسعا وإلا فالتحقيق أنّ الله تعالى هو المخرج لتلك الأشياء من الأرض.

وقوله تعالى : (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) تقدّم تفسيره ، وهذا ليس بتكرار لأنّ الأول في السماء وهذا في الأرض ، وتقدّم جواب إذا. ومن جملة ما قيل فيه وما عطف عليه أنه محذوف دل عليه ما بعده ، تقديره : لقي الإنسان عمله وذلك كله يوم القيامة. واختلف في الإنسان في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) أي : الآنس بنفسه الناسي لأمر ربه (إِنَّكَ كادِحٌ) فقيل : المراد جنس الإنسان كقولك : يا أيها الرجل ، فكأنه خطاب خص به أحد من الناس. قال القفال : وهو أبلغ من العموم ؛ لأنه قائم مقام التنصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين بخلاف اللفظ العامّ. وقيل : المراد منه رجل بعينه ، فقيل : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى : إنك كادح في إبلاغ رسالات الله تعالى وإرشاد عباده وتحمل الضرر من الكفار ، فأبشر فإنك تلقى الله تعالى بهذا العمل. وقال ابن عباس : هو أبيّ بن خلف وكدحه هو جدّه واجتهاده في طلب الدنيا ، وإيذاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإصرار على الكفر. والكدح : جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤثر فيها من كدح جلده إذا خدشه.

ومعنى كادح (إِلى رَبِّكَ) أي : جاهد إلى لقائه وهو الموت ، أي : هذا الكدح يستمرّ إلى هذا الزمن وقال القفال : تقديره إنك كادح في دنياك. (كَدْحاً) تصير إلى ربك. وقوله تعالى : (فَمُلاقِيهِ) يجوز أن يكون عطفا على كادح ، والسبب فيه ظاهر ، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي : فأنت ملاقيه ، وقيل : جواب إذا ، والضمير في ملاقيه إمّا للرب أي : ملاقي حكمه لا مفر لك منه ، وإمّا للكدح إلا أنّ الكدح عمل وهو عرض لا يبقى ، فملاقاته ممتنعة ، فالمراد جزاء كدحك من خير أو شرّ. وقال الرازي : المراد ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال ، ويؤكد هذا قوله تعالى بعده : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) أي : كتاب عمله الذي كتبته الملائكة. (بِيَمِينِهِ) أي : من أمامه وهو المؤمن المطيع. (فَسَوْفَ يُحاسَبُ) أي : يقع حسابه بوعد لا خلف فيه ، وإن طال الأمد لإظهار الجبروت والكبرياء والقهر. (حِساباً يَسِيراً) هو عرض عمله عليه كما فسر في حديث الصحيحين وفيه : «من نوقش الحساب هلك» (١) وفي رواية : «من حوسب عذب» (٢). وقالت عائشة : «أليس يقول الله تعالى : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) فقال : إنما ذلك العرض ، ولكن من نوقش الحساب عذب» (٣) وإنما حوسب حسابا سهلا لأنه كان يحاسب نفسه فلا تقع له المخالفة إلا

__________________

(١) أخرجه البخاري في العلم حديث ١٠٣ ، ومسلم في الجنة حديث ٢٨٧٦ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣٣٧ ، وأبو داود في الجنائز حديث ٣٠٩٣.

(٢) أخرجه بهذا اللفظ أبو داود في الجنائز حديث ٣٠٩٣ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣٣٨ ، وأحمد في المسند ٦ / ١٠٨.

(٣) انظر الحاشية ما قبل السابقة.

٥٧٨

ذهولا ، فلأجل ذلك تعرض أعماله فيقبل حسنها ويعفى عن سيئها.

(وَيَنْقَلِبُ) أي : يرجع بنفسه من غير مزعج برغبة وقبول (إِلى أَهْلِهِ) أي : الذين أهله بهم في الجنة من الحور العين والآدميات والذريات إذا كانوا مؤمنين (مَسْرُوراً) أي : قد أوتي جنة وحريرا ، فإنه كان في الدنيا في أهله مشفقا من العرض على الله يحاسب نفسه حسابا عسيرا مع ما هو فيه من نكد الأهل وضيق العيش.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) وهو الكافر تغل يمناه إلى عنقه ، وتجعل يسراه وراء ظهره فيأخذ بها كتابه.

(فَسَوْفَ يَدْعُوا) أي : بوعد لا خلف في وقوعه (ثُبُوراً) يقول : يا ثبوراه ، والثبور : الهلاك ، كقوله تعالى : (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) [الفرقان : ١٣].

(وَيَصْلى سَعِيراً) أي : يدخل النار الشديدة. وقرأ أبو عمرو وعاصم بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام ، والباقون بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام ، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين ، وإذا فتح ورش غلظ اللام ، وإذا أمال رقق والباقون بالفتح.

(إِنَّهُ كانَ) أي : بما هو له كالجبلة (فِي أَهْلِهِ) أي : عشيرته في الدنيا (مَسْرُوراً) قال القفال : أي : منعما مستريحا من التعب بأداء العبادات واحتمال مشقة الفرائض من الصلاة والجهاد مقدما على المعاصي آمنا من الحساب والثواب والعقاب لا يخاف الله تعالى ، ولا يرجوه فأبدله الله تعالى بذلك السرور غما باقيا لا ينقطع.

وقيل : إنّ قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) كقوله تعالى : (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) [المطففين : ٣١] أي : متنعمين في الدنيا معجبين بما هم عليه من الكفر بالله تعالى والتكذيب بالبعث ، ويضحكون ممن آمن بالله تعالى ، وصدّق بالحساب كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» (١). (إِنَّهُ ظَنَ) أي : لضعف نظره (أَنْ) مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي : أنه (لَنْ يَحُورَ) أي : لن يرجع إلى الله تعالى تكذيبا بالمعاد. يقال : لا يحور ولا يحول ، أي : لا يرجع ولا يتغير. قال لبيد (٢) :

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

وعن ابن عباس : ما كنت أدري ما معنى يحور حتى سمعت أعرابية تقول لبنية لها : حوري ، أي : ارجعي.

وقوله تعالى : (بَلى) إيجاب لما بعد النفي في لن يحور ، أي : بلى ليحورنّ. (إِنَّ رَبَّهُ) أي : الذي ابتدأ إنشاءه ورباه (كانَ) أي : أزلا وأبدا (بِهِ بَصِيراً) أي : من يوم خلقه إلى يوم بعثه ، أو بأعماله لا ينساها. وقال عطاء : بصيرا بما سبق عليه في أمّ الكتاب من الشقاوة.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٢٩٥٦ ، والترمذي في الزهد حديث ٢٣٢٤ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤١١٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٩٧ ، والحاكم في المستدرك ٣ / ٦٠٤.

(٢) البيت من الطويل ، وهو للبيد في ديوانه ص ١٦٩ وحماسة البحتري ص ٨٤ ، والدرر ٢ / ٥٣ ، ولسان العرب (حور) ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ١١٠.

٥٧٩

واختلفوا في الشفق في قوله تعالى :

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) فقال مجاهد : هو النهار كله. وقال عكرمة : ما بقي من النهار. وقال ابن عباس وأكثر المفسرين : هو الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس. وقال قوم : هو البياض الذي يعقب تلك الحمرة.

تنبيه : سمي بذلك لرقته ، ومنه الشفقة على الإنسان رقة القلب عليه واللام في لا أقسم مزيدة للتأكيد.

(وَاللَّيْلِ) أي : الذي يغلبه ويذهبه (وَما وَسَقَ) أي : ما جمع وضم يقال وسقه فاتسق واستوسق قال الشاعر (١) :

مستوسقات لو يجدن سائقا

ونظيره في وقوع افتعل واستفعل مطاوعين اتسع واستوسع ، ومعناه : وما جمعه وستره وآوى إليه من الدواب وغيرها.

(وَالْقَمَرِ) أي : الذي هو آيته (إِذَا اتَّسَقَ) أي : إذا اجتمع واستوى ليلة أربع عشرة. وقال قتادة : استدار وهو افتعل من الوسق.

تنبيه : قد اختلف العلماء في القسم بهذه الأشياء هل هو قسم بها أو بخالقها؟ فذهب المتكلمون. إلى أنّ القسم واقع بربها وإن كان محذوفا ؛ لأنّ ذلك معلوم من حيث ورود الحظر بأن يقسم بغير الله تعالى أو بصفة من صفاته ، وقد مرّ أنّ ذلك يكره في حق الإنسان ، فإنّ الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه وجواب القسم.

(لَتَرْكَبُنَ) أي : أيها الناس ، أصله تركبون حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال والواو لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بفتح الباء الموحدة على خطاب الإنسان ، والباقون بضمها على خطاب الجمع ، وهو معنى الإنسان إذ المراد به الجنس أي : لتركبنّ أيها الإنسان (طَبَقاً) مجاوزا (عَنْ طَبَقٍ) أي : حالا بعد حال. قال عكرمة : رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم شيخ وعن ابن عباس : الموت ثم البعث ثم العرض. وعن عطاء : مرّة فقيرا ومرّة غنيا. وقال أبو عبيدة : لتركبن سنن من كان قبلكم وأحوالهم لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبرا شبرا وذراعا ذراعا حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم ، قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال : فمن؟!» (٢).

__________________

(١) الشطر الأول من الرجز :

إنّ لنا قلائصا حقائقا

والرجز للعجاج في ملحق ديوانه ٢ / ٣٠٧ ، وتاج العروس (وسق) ، ولسان العرب (وسق) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ٩ / ٢٣٥ ، وديوان الأدب ٣ / ٢٨٣.

(٢) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب ٥٠ ، والاعتصام باب ١٤ ، ومسلم في العلم حديث ٦ ، وابن ماجه في الفتن باب ١٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٢٧ ، ٤٥٠ ، ٥١١ ، ٥٢٧ ، ٣ / ٨٤ ، ٨٩ ، ٩٤.

٥٨٠